قرية فوق السحاب
![]() |
مدينة السحاب |
لطالما كان مشهد السحاب في السماء هو
مشهد الإلهام الوجداني الذي تغني به الشعراء علي مدار الزمن وهو لحظة الهدوء التي
يبحث عنها العاشق الهائم شوقا وحزنًا، وهو العبرة والعظة، التي لطالما يسبح فيها
المتأمل في ملكوت الله عز وجل ، فماذا لو أطلقت لخيالك العنان ، وسكنت فوق السحاب،
ماذا لو رأيت الكون كله من الأعلي، ياله من شعور أن تري نفسك تسبح بين السحاب .
حقيقة مجسدة وليست بخيال
قرية لا تمطر عليها السحاب ، مبنية في
أعالي جبال اليمن، قرية الحطيب البديعة ليست قرية عادية، رغم شهرتها الوحيدة على الألسن
بأنها لم تنعم يومًا بماء المطر فكل السحب تتشكل أسفلها، لكنها قيمة استثنائية عالمية
ممتلئة بالكثير.
تاريخيًا تعرف كل القرى المبنية في أعلى
جبال اليمن، هي أعلى من سحابها، لا لكي تصبح هناك معلقة بلا سبب، بل كانت رغبة من اليمني
القديم في الاحتماء بأسرته والاستقرار بعيدًا عن الحيوانات المفترسة، وينجو كذلك من
الأعداء والمحاربين والغزاة أثناء الغارات المفاجئة والهجمات المتكررة، فيصبح دفاعه
عن نفسه أقوى وهو في الأعلى، لتبقى هذه القرى في ارتفاعها كما هي صامدة حتى يومنا،
رغم الحروب التي مرت في تاريخها. بقيت محمية من المجاعات والتوترات ولم تتأثر بأي شيء،
وبما أنها فوق تلك القمم فإن طقسها أيضًا مثير كوجودها. جوّها الثلجي شتاء يظل حتى
الصباح الباكر فقط، فما أن تشرق الشمس سرعان ما يتحول إلى دافئ، وإن كان الفصل شتاءً.
![]() |
قرية فوق السحاب |
بنيت قرية الحطيب من الحجر الرملي الأحمر المطل على التلال،
الحطيب، هذه القرية المعلقة المبنية على
قمة الجبل، وكأنها لوحة من عالم آخر، لكونها تعانق الفضاء والسحب أسفلها، يعدها الناس
ليس أجمل قرى العالم فقط، فقد تحدث عنها القاصي والداني بوصفها قرية ذات مكانة خاصة،
بل يزورها الناس من كل أنحاء الدنيا، اعتقادًا بأهميتها، ليجدوها مباركة، بالأخص ساكنيها
من طائفة «البهرة» المسالمة والمتسامحة، وليتبنى أهلها وأغنياؤها بناء المشاريع الخدمية
فيها من مدرسة ومستشفى... وإقامة الاحتفالات وإحياء ليالي رمضان ومساعدة الفقراء وإطعامهم.
سكان قرية الحطيب :
سكن هذه القرية البهرة ويُذكر أن «البهرة» لفظ هندي الأصل ويعني (التاجر)، لكن تبقى أصولهم ونشأتهم
في مصر منذ العصر الفاطمي، ظلوا ينتقلون ويسافرون حتى استقر أغلبهم في أماكن عدة حول
العالم، وأغلبهم في الهند وباكستان وسيريلانكا وسنغافورة ومدغشقر... والآن في دول الخليج
العربي، لكن تبقى الهند مقامهم الأول عبر تاريخهم، ويعتبرون عددا من مدن منطقة الخليج
مركزًا آمنًا لهم ولتجارتهم. فيما تبقى قرية الحطيب في عزلتها وقمتها، لا يتعدى سكانها
الـ1000 نسمة، ومع ذلك تظل ساحرة وثمينة إلى يومنا هذا.
«البهرة» طائفة دينية امتهنت التجارة حرفةً،
ولهم في الخليج العربي وجود وسكن، حيث يصل عددهم عدة آلاف تتزايد مع الأيام، كما تنظم
الطائفة مجلسًا سنويًا للعظة، يقيمه زعيمها سلطان البهرة، ولهم في مدن منطقة الخليج
الاحترام والتقدير مع رسالة التعايش والسلام، بهدف تناغم العيش مع الطوائف كافة.
ومن الجدير بالذكر أن لبلاد اليمن من الجبال
الكثير وبأسماء لا حصر لها، تبدو شائكة وممتدة وجميلة وساحرة ومخيفة... فبها من القمم
التي تعد الأبرز في العالم، ولكن لا يكاد يعرفها سوى أهلها. ورغم علو جبل «حَراز»،
يبقى جبل النبي شعيب -عليه السلام- هو أشهر جبال اليمن وأعلاها، ليس في اليمن فحسب،
بل وفي جزيرة العرب كلها، حيث يعد الجبل ثالث أعلى قمة جبلية في الشرق الأوسط، ورغم
أننا لم نجد الخرائط الحديثة لهذا الجبل لنتخذها مصدراً، لكن بعض التقارير ذكرت ذلك،
وأخيرًا، فإن الثلوج البيضاء تغلف رأسه كل عام، وبعد صقيع الشتاء والرياح السريعة التي
تهاجم علياءه، حتى تبدو الغيوم الثقيلة أسفل قمته.
حقا؛ مدينة تستحق التأمل، مدينة السحر والجمال، مدينة فيها من الإبداع، ما يخلب الألباب .